بقلم: غازي المهايني

المدير التنفيذي

الليرة التركية

خلال الشهر الماضي كانون الأول ديسمبر 2021، كانت الليرة التركية تواصل هبوطها لمستويات قياسية تاريخية. و صلت لـ 18  ليرة تركية لكل دولار أمريكي واحد.

لكن بتاريخ 20-12 -2021 تحدياً إجتمع الرئيس التركي و وزير المالية و رئيس البنك المركزي.

و بعد كلمة متلفزة للرئيس التركي توقفت الليرة التركية عن الإنهيار بشكل مفاجئ، بل على العكس إرتفعت قيمة الليرة بشكل كبير ووصلت ل 12 ليرة لكل دولار أمريكي واحد أي بتحسن 34% خلال لحظات.

فماذا حصل خلال هذا الإجتماع و جعل قيمة الليرة التركية ترتفع بشكل مفاجئ.

و قبل كل شيئ لماذا تهبط قيمة الليرة التركية بإستمرار و منذ سنوات.

الروايات عن أسباب هبوطها:

على الرغم من الإستقرار الحالي في قيمة الليرة التركية، إلا أنه في عام 2021 فقط, هبطت قيمة الليرة التركية بنسبة 60% أمام الدولار الأمريكي و الهبوط كان مستمر و متسارع.

طبعا هنالك روايات كثيرة تتكلم عن أسباب الهبوط الدائم و المستمر في قيمة الليرة التركية و على مدى سنوات.

  • هنالك فريق يقول أن الليرة التركية تهبط نتيجة مؤامرة على تركيا و الحكومة التركية، وأن سعر الصرف الحالي غير عادل و يستشهدون بأن كل الدول المعادية للحلف الأمريكي تعاني من نفس الهبوط.
  • رواية أخرى تناقض الأولى تماماً: هذه الرواية تقول أن الحكومة التركية تخفض سعر الليرة بشكل متعمد. لتستطيع تخفيض سعر المنتجات المصنعة محليا و بالتالي زيادة حجم الصادرات التركية إلى الخارج، كما تفعل الصين و اليابان و دول أخرى تعتمد على الصادرات بشكل كبير.
  • رواية ثالثة تؤكد أن الليرة التركية ستتعافى قبيل إنتخابات ال 2023، و ستكون ورقة مهمة جداً بيد الحزب الحاكم لضمان النجاح بالإنتخابات القادمة.
  • أما الرواية الرابعة و الأخيرة فتقول أن الإقتصاد التركي ينهار بالفعل و أكبر دليل هو إنهيار سعر صرف الليرة التركية.

الأسباب الحقيقة لهبوط سعر صرف الليرة التركية.

في الحقيقة و لا أي رواية من الروايات السابقة هي صحيحة بشكل كامل أو خاطئة بشكل كامل.

و لمعرفة الحقيقة يجب أن نبحث عن أسباب هبوط سعر صرف أي عملة في العالم.

بحسب علم الإقتصاد الكلي Macroeconomic هنالك عدة أسباب لتراجع سعر صرف أي عملة في العالم.

السبب الأول و الأهم و الذي سنناقشه اليوم بالتفصيل هو عجز الميزان التجاري للدولة Trade Balance deficit .

  • ماذا يعني عجز الميزان التجاري؟

أولا الميزان التجاري هو الفرق بين حجم صادرات الدولة إلى الخارج و حجم الواردات.

فإذا كانت صادرات الدولة أكبر من الواردات فنقول أن الدولة لديها فائض في الميزان التجاري أما العكس إذا كانت الواردات أكبر من الصادرات ففي هذه الحالة نقول أن الدولة لديها عجز بالميزان التجاري.

تركيا للأسف لديها عجز مستمر بالميزان التجاري و منذ سنوات.

بالكلام عن أسباب العجز في الميزان التجاري التركي.

  • تركيا كما نعلم بلد غير نفطي أي لا يمتلك مخزون نفطي جيد على أراضيه.

طبعاً هنالك بعض الإكتشافات النفطية الحديثة، و التي لا يمكن أن تغطي إحتياجات تركيا من الوقود بشكل كامل.

  • إحتياطي النفط التركي المكتشف و المثبت حتى الآن هو فقط 370 مليون برميل. بينما حجم الإستهلاك اليومي المحلي يقارب المليون برميل، مما يعني أنه في حال إستخراج جميع النفط المكتشف و هو صعب جدا فسيكفي تركي سنة واحدة فقط. بما يعني أن تركيا ستبقى تستورد النفط من الخارج و بالدولار.
  • لكن الوضع بالنسبة للغاز أفضل.

إحتياطي الغاز المكتشف هو 540 مليار متر مكعب معظمه موجود بحقل سكاريا في البحر الأسود. بينما حجم الإستهلاك اليومي المحلي 4 مليار متر مكعب مما يعني أن الغاز المكتشف في حال إستخراجه سيكفي تركيا 10 سنوات.

فاتورة تركيا السنوية من النفط هي تقريبا 40 مليار دولار. و هذا الرقم مرشح للتضاعف مع عودة الحركة الإقتصادية العالمية نتيجة إنحسار وباء كورونا و بالتالي إرتفاع أسعار النفط عالمياً.

  • تركيا أيضاً بلد صناعي ناشئ و يحتاج معدات صناعية ثقيلة و ذات تقنية عالية و مواد أولية لتشغيل الإنتاج و المنافسة بالسوق العالمي

مستوردات تركيا السنوية من المعدات الثقيلة هي 25 مليار دولار.

  • و بالمناسبة العجز في الميزان التجاري التركي ليس بجديد على الإطلاق.

أول مرة يحصل فيها عجز بالميزان التجاري التركي كان عام 1947 في زمن حكومة Recep Peker و التي إستمرت سنة واحدة فقط.

علاقة العجز التجاري بإنخفاض قيمة الليرة التركية:

العجز التجاري شبيه بشخص راتبه 1000 دولار شهريا و يصرف 1200 و هذا الشيء بينطبق على حالة الدول.

المشكلة تبدأ مع طريقة تمويل العجز و الذي غالبا ما يكون على شكل قروض خارجية بفوائد و بالعملة الأجنبية.

و طبعا مع إستمرار العجز بشكل سنوي يدخل الإقتصاد الوطني في حلقة مفرغة من العجز التجاري فالقروض و إعادة جدولة القروض و تمويل القروض بالقروض و هذا سيزعزع الثقة بالإقتصاد و عملته المحلية و الذي نرى نتائجه بشكل واضح على سعر صرف الليرة اليوم.

بحسب آخر الإحصائيات فالديون الخارجية على تركيا $450 مليار دولار يعني 60% من الناتج المحلي.

الأسباب الثانوية لهبوط قيمة الليرة :

  • طبعا هنالك أسباب ثانوية أخرى لهبوط سعر صرف الليرة التركية كتخفيض أسعار الفائدة.

في السابق كانت الحكومة التركية تواجه إنخفاض قيمة الليرة التركية بإستخدام أداتين:

  • الأولى رفع أسعار الفائدة البنكية.
  • التانية ضخ كميات من العملات الأجنبية في السوق.
  • هذه الحلول لم تعد مجدية حاليا لأن رفع سعر الفائدة جعل المستثمرين يفضلون إيداع أموالهم في البنوك و الحصول على الفائدة العالية بدل إستثمارها في الصناعة و التجارة مما أدى إلى سحب السيولة من السوق و إنكماش الإستثمار الحقيقي وأثر بالنهاية على إنتاجية البلد بشكل كبير.
  • و أيضا العملات الأجنبية اللتي كانت تضخ بالسوق في كل مرة كانت تحترق و تأثيرها غالبا ما يكون قصير و بسيط على سعر الصرف.
  • الرئيس التركي قرر تغيير هذه المعادلة عن طريق تخفيض سعر الفائدة.

خطة الرئيس التركي تفترض أنه عند تخفيض سعر الفائدة سيحصل 3 أمور:

  1. المودعون سيقومون بسحب أموالهم من البنوك و ضخها في المشاريع الإستثمارية الحقيقية و بالتالي ستزيد حجم الإستثمار و يرتفع النمو الإقتصادي الحقيقي و بنفس الوقت سيتوجه المقترضون للإقتراض و لكن هالمرة بفوائد أقل و هذه الأموال ستحرك عجلة الإقتصاد أيضا.
  2. الصادرات التركية ستزداد بسبب هبوط أسعارها و زيادة إنتاجية البلد.
  3. السياحة في عام 2022 ستحقق أرقام قياسية تاريخية بسبب إنخفاض تكاليف السياحة و إنحسار وباء كورونا و ستدخل كميات كبيرة جدا من العملات الأجنبية.

طبعا هذه الخطة ستحتاج لوقت لإثبات نجاحها من عدمه.

الإجتماع الحاسم:

ما الذي حصل بتاريخ 20-12-2021؟

طبعا بعد التخفيض المستمر لأسعار الفائدة و الذي وصل لل 14% بعد أن كان 19% بداية العام 2021 , إنهارت الليرة التركية و وصلت لل 18 ليرة تركية لكل دولار بتاريخ 20-12 -2021 لأن المودعين بدأو يسحبون أموالهم من البنوك و قامو بتحويلها للدولار مما ضغط بشكل مخيف على الليرة التركية نتيجة إنخفاض الطلب عليها.

الرئيس التركي قام بحركة جديدة و غير مسبوقة و فاجئت الجميع.

الرئيس التركي أعطى المودعين بالليرة التركية ضمانة بعدم خسارة قيمة ودائعهم نتيجة أي هبوط محتمل لسعر الصرف عند تاريخ إستحقاق الودائع.

يعني إذا كان معك 10,000 ليرة تركية قيمتهم بحسب سعر صرف اليوم 900$ , يمكنك إيداعهم في البنك و الحصول على فوائد , و عند سحب الوديعة إذا أصبحت قيمة ال 10,000 ليرة 800$ مثلا , ستقوم الحكومة بالتعويض عن فرق الخسارة بالليرة التركية.

هذا الشيء أوقف حركة سحب الليرة من البنوك و تحويلها إلى دولار أمريكي بل على العكس أعادت تدفق الليرة إلى البنوك بل و تحويل الناس مدخراتها من الدولار إلى الليرة التركية.

سلبيات إنخفاض سعر الصرف:

بغض النظر عن الإستقرار الحالي بقيمة الليرة التركية لكن الحقيقة أنها هبطت في عام 2021 بنسبة 60%.

و النتائج السلبية لإنخفاض قيمة العملة كبير جدا و تؤثر على الشريحة الأكبر من المجتمع سواء المواطنين الأتراك أو حتى المقيمين في تركيا.

أهم هالسلبيات هو التضخم و إنخفاض القوة الشرائية للعملة المحلية.

يعني بإختصار الغلاء.

السؤال الأخطر:

هل الإقتصاد التركي عم ينهار؟

علامات إنهيار أي إقتصاد في العالم هو الإفلاس و العجز عن سداد الرواتب و القروض وإلتزامات الدولة و هذه الحالة لاتنطبق على تركيا.

رغم كل الصعوبات التي تكلمنا عنها فإن الحكومة التركية حافظت على رصيد نقدي كبير من العملات الأجنبية و الذي كان عام 2021 ,122 مليار دولار أمريكي رغم تداعيات جائحة كورونا بحسب بيانات البنك المركزي.

النهاية.

إقرأ المزيد عن الإدارة المالية والقانونية: